فصل: سورة سبأ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الثعلبي



.سورة سبأ:

أخبرنا ابن المقرئ عن ابن مطيرة عن إبراهيم بن شريك عن أحمد بن يونس عن سلام بن سليم عن هارون بن كثير عن زيد بن أسلم عن أبيه عن أبي أُمامة عن أُبيّ بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة سبأ لم يبقَ نبي ولا رسول إلاّ كان يوم القيامة له رفيقاً ومصافحاً».
بسم الله الرَّحْمن الرحيم

.تفسير الآيات (1- 9):

{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (1) يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (2) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (3) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (5) وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (6) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (7) أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ (8) أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (9)}
قوله: {الحمد للَّهِ} وهو الوصف بالجميل على جهة التعظيم {الذي لَهُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض وَلَهُ الحمد فِي الآخرة} كما هو له فى الدنيا؛ لأنّ النعم كلها في الدارين منه، {وَهُوَ الحكيم الخبير}.
قوله: {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأرض} يدخل ويغيب فيها من الماء والموادّ والحيوانات، {وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا} من النبات، {وَمَا يَنزِلُ مِنَ السمآء} من الأمطار، {وَمَا يَعْرُجُ} يصعد {فِيهَا}: من الملائكة وأعمال العباد، {وَهُوَ الرحيم الغفور}.
{وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لاَ تَأْتِينَا الساعة قُلْ بلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ} الساعة، ثم عاد جلّ جلاله إلى تمجيده والثناء على نفسه، فقال عز من قائل: {عَالِمِ الغيب}، اختلف القراء فيها، فقرأ يحيى والأعمش وحمزة والكسائي: {علاّمِ الغيب} بخفض الميم على وزن فعال، وهي قراءة عبد الله وأصحابه. قال الفراء: وكذلك رأيتها في مصحف عبد الله {علاّمِ}.
وقرأ أهل مكة والبصرة وعاصم بجر الميم على مثال فاعل رداً على قوله، وهي اختيار أبي عبيد فيه، وفي أمثاله يؤثر النعوت على الابتداء.
وقرأ الآخرون {عالمُ} رفعاً بالاستئناف؛ إذ حال بينهما كلام.
{لاَ يَعْزُبُ} يغيب ويبتعد {عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ}: وزن نملة، وهذا مثل؛ لأنه سبحانه لا يخفى عليه ما هو دون الذرة. {فِي السماوات وَلاَ فِي الأرض وَلاَ أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ * لِّيَجْزِيَ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات أولئك لَهُمْ مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ * والذين سَعَوْا في آيَاتِنَا} عملوا في إبطال أدلّتنا والتكذيب بكتابنا {مُعَاجِزِينَ}: مسابقين يحسبون أنهم يفوتوننا.
قال ابن زيد: جاهدين، وقرأ: {لاَ تَسْمَعُواْ لهذا القرآن} [فصلت: 26].
{ولائك لَهُمْ عَذَابٌ مِّن رِّجْزٍ أَلِيمٌ}، قرأ ابن كثير ويعقوب وعاصم برواية حفص والمفضل {أَلِيمٌ} بالرفع على نعت ال {عذاب}. غيرهم بالخفض على نعت ال {رجز}. قال قتادة: الرجز أسوأ العذاب، ومثله في الجاثية {وَيَرَى} يعني: وليرى {الذين أُوتُواْ العلم} يعني: مؤمني أهل الكتاب: عبد الله بن سلام وأصحابه، وقال قتادة: هم أصحاب محمد عليه السلام.
{الذي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ} يعني: القرآن {هُوَ الحق ويهدي} يعني: القرآن {إلى صِرَاطِ العزيز الحميد} وهو الإسلام.
{وَقَالَ الذين كَفَرُواْ} منكرين للبعث متعجبين منه: {هَلْ نَدُلُّكُمْ على رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ}: يخبركم، يعنون: محمداً عليه السلام {إِذَا مُزِّقْتُمْ}: قطعتم وفرقتم {كُلَّ مُمَزَّقٍ} وصرتم رفاتاً {إِنَّكُمْ} بالكسر على الابتداء والحكاية، مجازة يقول لكم: {إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ}.
{أفترى} ألف الاستفهام دخلت على ألف الوصل لذلك نُصب {عَلَى الله كَذِباً أَم بِهِ جِنَّةٌ}: جنون؟ قال الله تعالى: {بَلِ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة فِي العذاب والضلال البعيد * أَفَلَمْ يَرَوْاْ إلى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِّنَ السمآء والأرض} فيعلموا أنهم حيث كانوا، فإن أرضي وسمائي محيطة بهم، لا يخرجون من أقطارها، وأنا لقادر عليهم ولا يعجزونني؟
{إِن نَّشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الأرض أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِّنَ السمآء} قطعة. قراءة العامة بالنون في الثلث، وقرأ الأعمش والكسائي كلها بالياء وهو اختيار أبي عبيد قال: لذكر الله عز وجل قبله.
{إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ} تائب مقبل على ربه راجع إليه بقلبه.

.تفسير الآيات (10- 11):

{وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (10) أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (11)}
قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلاً ياجبال} مجازه وقلنا: يا جبال {أَوِّبِي مَعَهُ}: سبحي معه إذا سبح. قال أبو ميسرة: هو بلسان الحبشة، وقال بعضهم: هو التفعيل من الإياب، أي ارجعي معه بالتسبيح. فهذا معنى قول قتادة وأبي عبيد، وقال وهب بن منبّه: نوحي معه.
{والطير} تساعدك على ذلك، قال: وكان إذا نادى بالنياحة أجابته الجبال بصداها وعكفت الطير عليه من فوقه، فصدى الجبال الذي يسمعه الناس من ذلك اليوم.
ويقال: إن داود كان إذا سبح الله جعلت الجبال تجاوبه بالتسبيح نحو ما يسبح. ثم إنه قال ليلة من الليالي في نفسه: «لأعبدن الله تعالى عبادة لم يعبده أحد بمثلها»، فصعد الجبل، فلما كان في جوف الليل وهو على الجبل دخلته وحشة، فأوحى الله سبحانه إلى الجبال أن آنسي داوُد قال: فاصطكت الجبال بالتسبيح والتهليل، فقال داوُد في نفسه: «كيف يسمع صوتي مع هذه الأصوات؟» فهبط عليه ملك فأخذ بعضده حتى انتهى به إلى البحر، فركله برجله فانفرج له البحر، فانتهى به إلى الأرض فركلها برجله فانفرجت له الأرض، حتى انتهى به إلى الحوت فركلها برجله فتنحت عن صخرة فركل الصخرة برجله فانفلقت فمزجت منها دودة تنشز، فقال له الملك: إن ربك يسمع نشيز هذه الدودة في هذا الموضع.
وقال القتيبي: أصله من التأويب في السير، وهو أن يسير النهار كله وينزل ليلاً.
قال ابن مقبل:
لحقنا بحي أوّبوا السيرَ بعدما ** دفعنا شعاعَ الشمسِ والطرفُ مجنحُ

كأنه أراد ادأبي النهار كله بالتسبيح معه، وقيل: سيري معه كيف يشاء: {والطير} قراءة العامة بالنصب، وله وجهان:
أحدهما بالفعل، مجازه: وسخرنا له الطيرَ، مثل قولك: أطعمته طعاماً وماء تريد: وسقيته ماء، والوجه الآخر النداء كقولك: يا عمرو والصلت أقبلا، نصبت الصلت؛ لأنه إنما يُدعى بيائها فإذا فقدتها كان كالمعدول عن جهته، فنصب، وقيل: مع الطير، فتكون الطير مأمورة معه بالتأويب.
وروي عن يعقوب بالرفع؛ رداً على {الجِبَالُ} أي أوبي معه أنتِ والطير، كقول الشاعر:
ألا يا عمرو والضحاك سيرا ** فقد جاوزتما خمر الطريق

يجوز نصب الضحاك ورفعه.
قوله: {وَأَلَنَّا لَهُ الحديد} فذكر أن الحديد كان في يده كالطين المبلول والعجين والشمع، يصرفه بيده كيف يشاء من غير إدخال نار ولا ضرب بحديد، وكان سبب ذلك على ما رُوي في الأخبار أن داوُد عليه السلام لما ملك بني إسرائيل كان من عادته أن يخرج للناس متنكراً، فإذا رأى رجلاً لا يعرفه، تقدم إليه يسأله عن داوُد، فيقول له: «ما تقول في داوُد واليكم هذا؛ أي رجل هو؟» فيثنون عليه ويقولون: خيراً فينا هو.
فبينا هو في ذلك يوماً من الأيام إذ قيّض الله ملكاً في صورة آدمي، فلما رآه داوُد تقدم إليه على عادته فسأله، فقال له الملك: نِعمَ الرجل هو لولا خصلة فيه.
فراع داوُد ذلك وقال: «ما هي يا عبد الله؟» قال: إنه يأكل ويطعم عياله من بيت المال. قال: فتنبه لذلك، وسأل الله تعالى أن يسبب له سبباً يستغني به عن بيت المال فيتقوت منه ويطعم عياله، فألان الله له الحديد فصار في يده مثل الشمع، وعلمه صنعة الدروع، وكان يتخذ الدروع وإنه أول من اتخذها.
فيُقال: إنه كان يبيع كل درع منها بأربعة آلاف، فيأكل ويطعم عياله منها ويتصدق منها على الفقراء والمساكين، ويقال أيضاً: إنما ألان الحديد في يده لما أُعطي من القوّة.
{أَنِ اعمل سَابِغَاتٍ} دروعاً كوامل واسعات {وَقَدِّرْ فِي السرد}، أي لا تجعل المسامير دقاقاً فتغلق ولا غلاظاً فتكسر الحلق. فكان يفعل ذلك: وهو أول من اتخذ الدروع، وكانت قبل ذلك صفائح، والسرد: صنعة الدرع، ومنه قيل لصانعها: السراد والزراد والدرع المسرودة، قال أبو ذويب:
وعليهما مسرودتان قضاهما ** داوُد أو صنع السوابغ تُبّع

وأصله الوصل والنظم، ومنه قيل للخرز: سرد وللأشفى مسرد وسراد. قال الشماخ:
كما تابعت سرد العنان الخوارز

وسرد الكلام.
{واعملوا} يعني داوُد وآله {صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}.

.تفسير الآيات (12- 14):

{وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ (12) يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ (13) فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ (14)}
قوله: {وَلِسُلَيْمَانَ الريح} قراءة العامة بنصب الحاء، أي وسخرنا لسليمان الريح، وروى أبو بكر والمفضل عن عاصم بالرفع على جر حرف الصفة. {غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا} من انتصاف النهار إلى الليل مسير {شَهْرٌ}، فجعل ما تسير به في يوم واحد مسيرة شهرين، وقال وهب: ذُكر لي أن منزلاً بناحية دجلة مكتوب فيه كتابة كتبها بعض صحابة سليمان عليه السلام، إما منَ الجن وإما من الإنس بحرّ نزلناه وما بنيناه، مبنياً وجدناه غدوناه من إصطخر فقلناه ونحن رائحون منه إن شاء الله فبائتون بالشام.
قال الحسن: لما شغلت نبي الله سليمان بن داوُد الخيل حتّى فاتته صلاة العصر غضب لله فعقر الخيل، فأبدله الله تعالى مكانها خيراً وأسرع له، تجري بأمره كيف يشاء {غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ} وكان يغدو من إيليا فيقيل بإصطخر ثم يروح منها فيكون رواحها بكابل.
وقال ابن زيد: كان له عليه السلام مركب من خشب، وكان فيه ألف ركن في كل ركن ألف بيت يركب معه فيه من الجن والإنس تحت كل ركن ألف شيطان يرفعون ذلك المركب، فإذا ارتفع أتت الريح الرخاء فسارت به وبهم، يقيل عند قوم بينه وبينهم شهر ويمسي عند قوم بينه وبينهم شهر، فلا يدري القوم إلاّ وقد أظلهم معه الجيوش.
ويروى أن سليمان عليه السلام سار من أرض العراق غادياً فقال بمدينة مرو، وصلّى العصر بمدينة بلخ تحمله وجنوده الريح ويظلهم الطير، ثم سار من مدينة بلخ متخللاً بلاد الترك، ثم جازهم إلى أرض الصين يغدو على مسيرة شهر ويروح على مثله. ثم عطف يمنة عن مطلع الشمس على ساحل البحر حتى أتى أرض القندهار، وخرج منها إلى مكران وكرمان ثم جازها حتى أتى أرض فارس فنزلها أياماً وغدا منها فقال بكسكر، ثم راح إلى الشام، وكان مستقره بمدينة تدمر، وقد كان أمر الشياطين قبل شخوصه من الشام إلى العراق، فبنوها له بالصفاح والعمد والرخام الأبيض والأصفر، وفي ذلك يقول النابغة:
ألا سليمان إذ قال الإله له ** قم في البرية فاحددها عن الفندِ

وخيس الجن إني قد أذنت لهم ** يبنون تدمر بالصفاح والعمدِ

ووجدت هذه الأبيات منقورة في صخرة بأرض كسكر، أنشأها بعض أصحاب سليمان بن داوُد عليهما السلام:
ونحن ولا حول سوى حول ربنا ** نروح إلى الأوطان من أرض تدمرِ

إذا نحن رحنا كان ريث رواحنا ** مسيرة شهر والغدوّ لآخر

أُناس شروا لله طوعاً نفوسهم ** بنصر ابن داوُد النبي المطهّرِ

لهم في معالي الدين فضل ورفعة ** وإن نسبوا يوماً فمن خير معشرِ

متى يركبوا الريح المطيعة أسرعت ** مبادرة عن شهرها لم تقصّرِ

تظلهمُ طير صفوف عليهم ** متى رفرفت من فوقهم لم تنفرِ

قوله: {وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ القطر}: وأذبنا له عين النحاس أُسيلت له ثلاثة أيام كما يسيل الماء، وكانت بأرض اليمن، وإنما ينتفع الناس اليوم بما أخرج الله لسليمان.
{وَمَن يَزِغْ}: يملْ ويعدل {عَنْ أَمْرِنَا} الذي أمرناه به من طاعة سليمان {نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السعير} في الآخرة. عن أكثر المفسرين، وقال بعضهم: في الدنيا، وذلك أن الله تعالى وكّل بهم ملكاً بيده سوط من نار فمن زاغ عن أمر سليمان ضربه ضربة أحرقته.
{يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَآءُ مِن مَّحَارِيبَ}: مساجد ومساكن وقصور، والمحراب: مقدم كل مسجد، ومجلس وبيت. قال عدي:
كدُمى العاج في المحاريب أو كال ** بيض في الروض زهره مستنير

وكان مما عملوا له من ذلك بيت المقدس، وقصته وصفته على ما ذكره أهل البصر بالسير أن الله تعالى بارك في نسل إبراهيم عليه السلام حتى جعلهم في الكثرة غاية لا يُحصون، فلما كان زمن داوُد عليه السلام لبث فيهم ثلاثين سنة بأرض فلسطين، وهم كل يوم يزدادُون كثرة، فأُعجب داوُد بكثرتهم فأمر بعدّهم، فكانوا يعدون زماناً من الدهر حتى أيسوا وعجزوا أن يحيط علمُهُم بعدد بني إسرائيل، فأوحى الله إلى داوُد: «إني قد وعدت أباك إبراهيم يوم أمرته بذبح ولده فصدقني وائتمر أمري أن أُبارك له في ذريته، حتى يصيروا أكثر من عدد نجوم السماء وحتى لا يحصيهم العادّون، وإني قد أقسمت أن أبتليهم ببلية يقل منها عددهم ويذهب عنك إعجابك بكثرتهم» وخيرّه بين أن يعذبهم بالجوع والقحط ثلاث سنين، وبين أن يُسلط عليهم عدوهم ثلاثة أشهر، وبين أن يُرسل عليهم الطاعون ثلاثة أيام.
فجمع داوُد بني إسرائيل وأخبرهم بما أوحى الله إليه وخيره فيه، فقالوا: أنت أعلم بما هو أيسر لنا وأنت نبينا فانظر لنا، غير أن الجوع لا صبر لنا عليه وتسليط العدو أمر فاضح، فإن كان لابد فالموت. فأمرهم داوُد عليه السلام أن يتجهزوا للموت، فاغتسلوا وتحنطوا ولبسوا الأكفان وبرزوا إلى الصعيد بالذراري والأهلين، وأمرهم أن يضجّوا إلى الله تعالى ويتضرعوا إليه لعله يرحمهم، وذلك في صعيد بيت المقدس قبل بناء المسجد. قال: وارتفع داوُد عليه السلام فوق الصخرة فخرّ ساجداً يبتهل إلى الله تعالى فأرسل الله فيهم الطاعون. فأهلك منهم في يوم وليلة ما لم يتفرغوا من دفنهم إلاّ بعد مدة شهرين. فلما أصبحوا من اليوم الثاني سجد داوُد وسجدوا معه إلى طلوع الشمس فلم يرفعوا رؤوسهم حتى كشف الله عنهم الطاعون.
قالوا: فلما أن شفّع الله تعالى داوُد في بني إسرائيل في ذلك المكان جمع داوُد بني إسرائيل بعد ثلاثة فقال لهم: «إن الله سبحانه قد منّ عليكم ورحمكم فجددوا له شكراً». فقالوا: كيف تأمرنا. قال: «آمركم أن تتخذوا من هذا الصعيد الذي رحمكم فيه مسجداً لا يزال فيه منكم وممن بعدكم ذاكر».
فلما أرادوا البناء جاء رجل صالح فقير يختبرهم ليعلم كيف إخلاصهم في ثبوتهم فقال لبني إسرائيل: إنّ لي فيه موضعاً أنا محتاج إليه ولا يحل لكم أن تحجبوني عنه. فقالوا له: يا هذا ما أحد في بني إسرائيل إلاّ وله في هذا الصعيد حق مثل حقك، فلا تكن أبخل الناس ولا تضايقنا فيه. فقال: أنا لا أعرف حقي وأنتم لا تعرفون. فقالوا له: إما إن ترضى وتطيب نفساً، وإلاّ أخذناه كرهاً. فقال لهم: أوتجدون ذلك في حكم الله وفي حكم داوُد؟
قال: فرفعوا خبره إلى داوُد فقال: «أرضوه». فقالوا: بكم نأخذه يا نبي الله؟ قال: «خذوه بمائة شاة». فقال الرجل: زد. فقال داوُد: «بمائة بقر». قال: زد. قال: «مائة إبل». قال: زدني فإنّ ما تشتريه لله تعالى. فقال داوُد: «أما إذا قلت هذا، فاحتكم أُعطكه» فقال: تشتري مني بحائط مثله زيتوناً ونخلاً وعنباً. قال: «نعم». فقال: تشتريه لله فلا تبخل. قال: «سل ما شئت أُعطكه، وإن شئت أُؤاجرك نفسي» قال: وتفعل ذلك يا نبي الله؟ قال: «نعم إذا شئت». قال: أنت أكرم على الله من ذلك، ولكنك تبني حوله جداراً مشرفاً ثم تملؤه ذهباً، وإن شئت ورقاً. قال داوُد: «هو هين».
فالتفت الرجل إلى بني إسرائيل وقال: هذا هو التائب المخلص. ثم قال لداوُد: يا نبي الله لئن يغفر الله لي ذنباً واحداً أحبُّ إلي من كل شيء وهبته لي، ولكني كنت أُجرّبكم.
فأخذوا في بناء بيت المقدس، وكان داوُد عليه السلام ينقل لهم الحجارة على عاتقه وكذلك خيار بني إسرائيل حتى رفعوه قامة. فأوحى الله تعالى إلى داوُد عليه السلام: «إنّ هذا بيت مقدّس وإنك رجل سفاك للدماء فلست ببانيه إذا لم أقضي ذلك على يدك، ولكن ابن لك أُملكه بعدك اسمه سليمان، أُسلّمه من سفك الدماء وأقضي إتمامه على يده، وذلك صيته وذكره لك باقياً».
فصلوا فيه زماناً، وداوُد يومئذ ابن سبع وعشرين ومئة سنة، فلما صار من أبناء أربعين ومئة سنة توفّاه الله واستخلف سليمان. فأحبّ بناء بيت المقدس، فجمع الجن والشياطين وقسم عليهم الأعمال فخص كل طائفة منهم بعمل يستصلحها له. فأرسل الجن والشياطين في تحصيل الرخام والمها الأبيض الصافي من معادنه، وأمر ببناء المدينة بالرخام والصفاح، وجعلها اثني عشر ربضاً، وأنزل كل ربض منها سبطاً من الأسباط وكانوا اثني عشر سبطاً.
فلما فرع من بناء المدينة ابتدأ في بناء المسجد، فوجّه الشياطين فرقاً، فرقاً يستخرجون الذهب والفضة والياقوت من معادنها والدر الصافي من البحر، وفرقاً يقلعون الجواهر والحجارة من أماكنها، وفرقاً يأتونه بالمسك والعنبر، فأُتي من ذلك بشيء لا يُحصيه إلاّ الله تعالى، ثم أحضر الصنّاعين وأمرهم بنحت تلك الحجارة المرتفعة وتصييرها ألواحاً، وإصلاح تلك الجواهر وثقب اليواقيت واللآلئ فكانوا يعالجونها، فتصوّت صوتاً شديداً لصلابتها، فكره سليمان تلك الأصوات.
فدعا الجن وقال لهم: هل عندكم حيلة في نحت هذه الجواهر من غير تصويت؟.
فقالوا: يا رسول الله، ليس في الجن أكثر تجارب، ولا أكثر علماً من صخر العفريت، فأرسل إليه من يأتيك به. فطبع سليمان خاتمه طابعاً وكان يطبع للشياطين بالنحاس، ولسائر الجن بالحديد وكان إذا طبع أحدهما بخاتمه لمع ذلك كالبرق الخاطف، فكان لا يراه أحد: جني ولا شيطان إلاّ انقاد له بإذن الله عزّت قدرته.
فأرسل الطابع مع عشرة من الجن فأتوه وهو في بعض جزائر البحور، فأروه الطابع، فلما نظر إليه كاد يصعق خوفاً، فأقبل مسرعاً مع الرسل حتى دخل على سليمان عليه السلام. فسأل سليمان رسله عما أحدث العفريت في طريقه. فقالوا: يا رسول الله إنه كان يضحك بعض الأحايين من الناس. فقال له سليمان عليه السلام: «ما رضيت بتمردك عليّ في ترك المجيء إليّ طائعاً حتى صرت تسخر بالناس؟».
فقال: يا نبي الله إني لم أسخر منهم غير أن ضحكي كان تعجّباً مما كنت أسمع وأرى في طريقي. فقال سليمان: وما ذاك؟.
قال: اعلم أني مررت برجل على شط نهر ومعه بغلة يريد سقيها ومعه جرة يريد أن يستقي فيها، فسقى البغلة وملأ الجرة، ثم أراد أن يقضي حاجته فشد البغلة بإذن الجرة فنفرت البغلة وجرت الجرة فكسرتها، فضحكت من حمق الرجل حيث توهم أن الجرة تحبس البغلة.
ومررت برجل وهو جالس عند إسكاف يستعمله في إصلاح خف له، فسمعته يشترط معه أن يصلحه بحيث يبقى معه أربع سنين ونسي نزول الموت به قبله، فضحكت من غفلته وجهله.
ومررت بعجوز تتكهن وتخبر الناس بما لا يعلمون من أمر السماء، وقد كنت عهدت رجلاً دفن في موضع فراشها ذهباً كثيراً في الدهور الخالية، فرأيتها تموت جوعاً وتحت فراشها ذهب كثير لا تعلم بمكانه، ثم تخبر الناس عن أمر السماء فضحكت منها.
ومررت برجل في بعض المدن، وقد كان به داء فيما قيل فأكل البصل فبرأ من دائه، فصار يتطبّب للناس، فكان لا يأتيه أحد يسأله عن علّة إلاّ أمره بأكل البصل وإنه لأضرّ شيء، حتى إنّ ضره ليصل إلى الدماغ، فضحكت منه.
ومررت ببعض الأسواق فرأيت الثوم وهو أفضل الأدوية كلّها يكال كيلاً، ورأيت الفلفل وهو أحد السموم القاتلة يوزن وزناً فضحكت من ذلك.
ومررت بناس قد جلسوا يبتهلون إلى الله تعالى ويسألونه المغفرة والرحمة، فملَّ منهم قوم وقاموا، وجاء آخرون وجلسوا فرأيت الرحمة قد نزلت عليهم، فأخطأت الذين كانوا من أهل المجلس، وغشيت الذين جاؤوا فجلسوا، فضحكت؛ تعجباً للقضاء والقدر.
قالوا: فقال سليمان له: هل عرفت في كثرة تجاربك وجولاتك في البر والبحر شيئاً تنحت به هذه الجواهر فتلين فيسهل نحتها وثقبها فلا تصوت؟ فقال: نعم يا نبي الله، أعرف حجراً أبيض كاللبن يقال له السامور غير أني لا أعرف معدنه الذي هو فيه، وليس في الطير شيء هو أحيل ولا أهدى من العقاب. فمر بعقاب أن تجعل فراخه في صندوق حجر معه ليلة، ثم تسرّح ذلك العقاب وتترك فراخه في الصندوق فإنه سيأتي بذلك الحجر فيضرب به ظهر الصندوق حتى يُنقبه به ليصل إلى فراخه.
قال: فأمر سليمان بعقاب مع فراخه فجعله في صندوق من حجر يوماً وليلة، ثم سرح العقاب دون الفراخ، فمرّ العقاب وجاء بذلك الحجر بعد يوم وليلة، وثقب به الصندوق حتى وصل إلى فراخه. فوجه سليمان مع العقاب نفراً من الجن حتى أتوه به منه قدر ما علم أن فيه كفاية، واستعمل ذلك في أدوات الصناعين، فسهل عليهم نحتها من غير تصويت وهو الحجر الذي يستعمل في نقش الخواتيم وثقب الجواهر إلى اليوم، وهو حجر عزيز ثمين.
قال: فبنى سليمان عليه السلام المسجد بالرخام الأبيض والأصفر والأخضر، وعمّده بأساطين المها الصافي، وسقفه بألواح الجواهر الثمنية وفصّص سقوفه وحيطانه باللآلئ واليواقيت وسائر الجواهر، وبسط أرضه بألواح الفيروز، فلم يكن يومئذ بيت في الأرض أبهى ولا أنور من ذلك المسجد، كان يضيء في الظلمة كالقمر ليلة البدر.
فلما فرغ منه جمع إليه أخيار بني إسرائيل فأعلمهم أنه بناه لله وأنّ كل شيء فيه خالص لله، واتخذ ذلك اليوم الذي فرغ منه عيداً.
وقالوا: من أعاجيب ما اتخذ سليمان عليه السلام ببيت المقدس أنْ بنى بيتاً وطيّن حائطه بالخضرة وصقله، فكان إذا دخله الورِع البرّ استبان خياله في ذلك الحائط أبيض، وإذا دخله الفاجر استبان فيه خياله أسود. فارتدع عند ذلك كثير من الناس عن الفجور والخيانة.
ونصب في زاوية من زوايا المسجد عصا أبنوس، فكان من مسها من أولاد الأنبياء لم يضره مسها، ومن مسها من غيرهم احترقت يده.
وروى الأوزاعي عن ربيعة بن يزيد عن عبد الله بن الديلمي عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لما فرغ سليمان من بناء بيت المقدس سأل ربه ثلاثاً فأعطاه اثنين وأنا أرجو أن يكون قد أعطاه الله الثالثة: سأله حكماً يصادف حكمه فأعطاه إياه، وسأله مُلكاً لا ينبغي لأحد من بعده فأعطاه إياه، وسأله أنْ لا يأتي هذا البيت أحد يصلي فيه ركعتين إلاّ خرج من ذنوبه كهيئة يوم ولدته أُمه وأنا أرجو أن يكون قد أعطاه ذلك».
قالوا: فلم يزل بيت المقدس على ما بناه سليمان عليه السلام حتى غزا نبوخذ نصر فخرب المدينة وهدمها، ونقض المسجد، وأخذ ما كان في سقوفه وحيطانه من الذهب والفضة والدر والياقوت وسائر الجواهر، فحمله معه إلى دار مملكته من أرض العراق.
قال سعيد بن المسيب: لما فرغ سليمان من بناء بيت المقدس تغلّقت أبوابه، فعالجها سليمان فلم تنفتح، حتى قال في دعائه: «بصلوات أبي داوُد إلاّ فتحت الأبواب».
ففتحت ففرغ له سليمان عشرة آلاف من قرّاء بني إسرائيل: خمسة آلاف بالليل، وخمسة آلاف بالنهار، فلا تأتي ساعة من ليل ولا نهار إلاّ والله يعبد فيها.
{وَتَمَاثِيلَ} أي صور، كانوا يعملون التماثيل من نحاس وصفر وشبه وزجاج ورخام في المساجد تماثيل الملائكة والنبيين الصالحين؛ لكي إذا رآهم الناس مصورين عبدوا عبادتهم.
{وَجِفَانٍ} أي قصاع، واحدها جفنة {كالجواب} كالحياض التي يجبى فيها الماء، أي يجمع، واحدها جابية.
قال الأعشى ميمون بن قيس:
تروح على آل مخلق جفنة ** كجابية الشيخ العراقي تفهق

أخبرنا أبو بكر الحمشاوي قال: أخبرني أبو بكر القطيعي إبراهيم بن عبد الله بن مسلم قال: حدثنا مسلم بن إبراهيم قال: حدثنا سهل السرّاج قال: سمعت الحسن يقول: {وجفان كالجواب} مثل حياض الإبل، ويقال: إنه كان يجتمع على جفنة واحدة ألف رجل يأكلون بين يديه.
{وَقُدُورٍ رَّاسِيَاتٍ}: ثابتات لا يحوّلن ولا يحركن من أماكنهن لعظمتهن، ولا ينزلن ولا يعطلن وكانت باليمن، ومنه قيل للجبال: رواسي {اعملوا} أي وقلنا: اعملوا {آلَ دَاوُودَ شُكْراً} مجازه: اعملوا بطاعة الله يا آل داوُد شكراً له على نعَمه، و{شُكْراً} في محل المصدر. {وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشكور} أرسل حمزة الياء وفتحها الباقون. قال القرظي: الشكر: تقوى الله والعمل بطاعته.
وحدثونا عن محمد بن يعقوب قال: حدثنا الحصر بن أبان قال: حدّثنا سيار قال: حدّثنا جعفر بن سليمان قال: سمعت ثابتاً يقول: كان داوُد نبي الله عليه السلام قد جزّأ ساعات الليل والنهار على أهله فلم يكن بأي ساعة من ساعات الليل والنهار إلاّ وإنسان من آل داوُد قائم يصلي، فعمهم الله تعالى في هذه الآية {اعملوا آلَ دَاوُودَ شُكْراً}.
{فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الموت} قال المفسرون: كان سليمان عليه السلام يتحرز في بيت المقدس السنة والسنتين والشهر والشهرين، وأقل من ذلك وأكثر، يُدخل فيه طعامه وشرابه، فأدخله في المرة التي مات فيها وكان بدوّ ذلك أنه لم يكن يوم يصبح فيه إلاّ نبتت في بيت المقدس شجرة فيسألها: «ما اسمك؟» فتقول الشجرة: اسمي كذا وكذا، فيقول لها: «لأيّ شيء أنت؟» فتقول: لكذا وكذا، فيأمر بها فتقطع.
فإن كانت نبتت لغرس غرسها وإن كانت لدواء كتب.
فبينما هو يُصلي ذات يوم إذ رأى شجرة بين يديه، فقال لها: «ما اسمك؟». قالت: الخروبة. قال: «ولأيّ شيء نبتّ؟» قالت: لخراب هذا المسجد. فقال سليمان: «ما كان الله ليخربه وأنا حي، أنت التي على وجهكِ هلاكي، وخراب بيت المقدس». فنزعها وغرسها في حائط له ثم قال: «اللهم عمِّ على الجن موتي حتى يعلم الإنس أنّ الجن لا يعلمون الغيب» وكانت الجن تخبر الإنس أنهم يعلمون من الغيب أشياء وإنهم يعلمون ما في غد ثم دخل المحراب فقام يُصلي متكئاً على عصاه فمات.
قال ابن زيد: قال سليمان لملك الموت: «إذا أُمرت بي فاعلمني». قال: فأتاه فقال: «يا سُليمان قد أُمرتُ بك، وقد بقيت لك سويعة».
فدعا الشياطين فبنوا عليه صرحاً من قوارير ليس له باب، فقام يُصلي واتكأ على عصاه، فدخل عليه ملك الموت فقبض روحه وهو متّكئ على عصاه.
وفي رواية أُخرى: أنّ سليمان عليه السلام قال ذات يوم لأصحابه: «قد آتاني الله من الملك ما ترون، وما مرّ عليّ يوم في ملكي بحيث صفا لي من الكدر، وقد أحببت أن يكون لي يوم واحد يصفو لي إلى الليل، ولا أغتم فيه ولكن ذلك اليوم غداً».
فلما كان من الغد دخل قصراً له وأمر بإغلاق أبوابه، ومنع الناس من الدخول عليه، ورفع الأخبار إليه لئلا يسمع ذلك اليوم شيئاً يسوؤه، ثم أخذ عصاه بيده، وصعد فوق قصره واتكأ على عصاه ينظر في ممالكه، إذ نظر إلى شاب حسن الوجه عليه ثياب بيض قد خرج عليه من جانب من جوانب قصره، فقال: «السلام عليك يا سليمان». فقال: «وعليك السلام، كيف دخلت هذا القصر، وقد منعت من دخوله؟ أما منعك البوّاب والحُجّاب؟ أما هِبتني حيث دخلت قصري بغير إذني؟» فقال: «أنا الذي لا يحجبني حاجب، ولا يدفعني بوّاب ولا أهاب الملوك، ولا أقبل الرشا وما كنت لأدخل هذا القصر بغير إذن» قال سُليمان: «فمن أذن لك في دخوله؟» قال: «ربه».
فارتعد سُليمان وعلم أنه ملك الموت، فقال له: «أنت ملك الموت؟» قال: «نعم»، قال: «فبمّ جئت؟».
قال: «جئت لأقبض روحك». قال: «يا ملك الموت هذا يوم أردت أن يصفو لي ولا أسمع فيه ما يغمني». قال: «يا سُليمان، إنك أردت يوماً يصفو لك فيه عيشك حتى لا تغتم فيه، ذلك اليوم لم يخلق في أيام الدنيا فارضَ بقضاء ربك فإنه لا مرد له».
قال: «فامضِ لما أُمرتَ به».
فقبض ملك الموت روحه وهو متكئ على عصاه. قالوا: وكانت الشياطين تجتمع حول محرابه ومصلاه أينما كان، فكان للمحراب كُوَى بين يديه وخلفه، وكان الشيطان الذي يُريد أن يخرج يقول: ألست جليداً إن دخلت فخرجت من ذلك الجانب، فيدخل حتى يخرج من الجانب الآخر. فدخل شيطان من أُولئك فمر ولم يسمع صوت سُليمان، ثم رجع فلم يسمع، ثم رجع فوقع في البيت فلم يحترق فنظر إلى سليمان وقد سقط ميتاً، فخرج فأخبر الناس أن سُليمان قد مات، ففتحوا عنه فأخرجوه ووجدوا منسأته وهي العصا بلسان الحبشة قد أكلتها الأرضة، ولم يعلموا مذ كم مات، فوضعوا الأرضة على العصا، فأكلت منها يوماً وليلة، ثم حسبوا على ذلك النحو فوجدوه قد مات من سنة، وكانت الجن تعمل بين يديه ينظرون إليه ويحسبون أنه حيّ ولا ينظرون احتباسه عن الخروج إلى الناس لطول صلاته قبل ذلك.
وهي في قراءة ابن مسعود: فمكثوا يدأبون له من بعد موته حولاً كاملاً، فأيقن الناس أنّ الجن كانوا يكذبونهم، ولو أنهم علموا الغيب لعلموا بموت سُليمان ولم يلبثوا في العذاب سنة يعملون له. ثم إنّ الشياطين قالوا للأرضة: لو كنتِ تأكلين الطعام أتيناك بأطيب الطعام، ولو كنتِ تشربين الشراب سقيناكِ أطيب الشراب، ولكنا سننقل إليكِ الطين والماء. فهم ينقلون إليها ذلك حيث كانت. قال: ألم ترَ إلى الطين الذي يكون فوق الخشب فهو ممّا يأتيها به الشياطين تشكراً لها، فذلك قوله تعالى: {فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الموت مَا دَلَّهُمْ على مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الأَرْضِ} وهي الأرضة، ويُقال لها: القادح أيضاً وهي دويبة تأكل العيدان.
{تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ} أي عصاه، فأصلها من نسأت الغنم إذا زجرتها وسقتها، وقال طرفة:
أمون كألواح الأران نسأتها ** على لاحب كأنه ظهر بُرجُدِ

أي سقتها، وهمزها أكثر القراء، وترك همزها أبو عمرو وأهل المدينة، وهما لغتان، وقال الشاعر في الهمز:
ضربنا بمنسأة وجهه ** فصار بذاك مهيناً ذليلاً

وقال الآخرون في ترك الهمز:
إذا دببت على المنساة من هرم ** فقد تباعد عنك اللهو والغزل

قوله: {فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الجن أَن لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ الغيب مَا لَبِثُواْ فِي العذاب المهين}، و{أَن} في محل الرفع؛ لأن معنى الكلام: فلما خر تبين وانكشف أنْ لو كان الجن أي ظهر أمرهم، وفي قراءة ابن مسعود أنْ لو كان الجن يعلمون الغيب مالبثوا في العذاب المهين، وقيل: {أَن} في موضع نصب أي علمت وأيقنت الجن أنْ لو كانوا يعلمون.
وقال أهل التاريخ: كان عمر سليمان عليه السلام ثلاثاً وخمسين سنة وكان مدة ملكه أربعين سنة، وملك يوم ملك وهو ابن ثلاث عشرة سنة، وابتدأ في بناء بيت المقدس لأربع سنين مضين من ملكه والله أعلم.